فصل: تفسير الآية رقم (11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 74‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنتُمْ‏}‏ الهمزة فيه للإِنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره‏:‏ أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإِعراض، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره‏.‏ ‏{‏أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر‏}‏ أن يقلبه الله وأنتم عليه، أو يقلبه بسببكم فبكم حال أو صلة ليخسف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيه وفي الأربعة التي بعده، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل كفروا وأعرضوا وأن الجوانب والجهات في قدرته سواء لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك‏.‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا‏}‏ ريحاً تحصب أي ترمي بالحصباء ‏{‏ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً‏}‏ يحفظكم من ذلك فإنه لا راد لفضله‏.‏

‏{‏أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ‏}‏ في البحر‏.‏ ‏{‏تَارَةً أخرى‏}‏ بخلق دواع تلجئكم إلى أن ترجعوا فتركبوه‏.‏ ‏{‏فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح‏}‏ لا تمر بشيء إلا قصفته أي كسرته‏.‏ ‏{‏فَيُغْرِقَكُم‏}‏ وعن يعقوب بالتاء على إسناده إلى ضمير ‏{‏الريح‏}‏‏.‏ ‏{‏بِمَا كَفَرْتُمْ‏}‏ بسبب إشراككم أو كفرانكم نعمة الإِنجاء‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا‏}‏ مطالباً يتبعنا بانتصار أو صرف‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ‏}‏ بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإِفهام بالنطق والإِشارة والخط والتهدي، أو أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحضر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس‏:‏ وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده‏.‏ ‏{‏وحملناهم فِى البر والبحر‏}‏ على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه، أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء‏.‏ ‏{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات‏}‏ المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم‏.‏ ‏{‏وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏ بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة، والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف‏.‏

‏{‏يَوْمَ نَدْعُو‏}‏ نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏، وقرئ «يدعو» و«يدعي» و«يدعو» على قلب الألف واواً في لغة من يقول أفعو في أفعى، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع، وهو قد يقدر كما في «يدعي»‏.‏ ‏{‏كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم‏}‏ بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين‏.‏

وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال‏.‏ وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم‏.‏ وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف، والحكمة في ذلك، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا‏.‏ ‏{‏فَمَنْ أُوتِىَ‏}‏ من المدعوين‏.‏ ‏{‏كتابه بِيَمِينِهِ‏}‏ أي كتاب عمله‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم‏}‏ ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله‏:‏

‏{‏وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فَهُوَ فِى الأخرة أعمى‏}‏ أيضاً مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة‏.‏ ‏{‏وَأَضَلُّ سَبِيلاً‏}‏ منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة‏.‏ وقيل لأن الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة‏.‏ وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظاً وحكماً فكانت معرضة للامالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر، وقرأ ورش بين بين فيهما‏.‏

‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ‏}‏ نزلت في ثقيف قالوا لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا، وكل رباً لنا فهو لنا وكل رباً علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك فقل إن الله أمرني‏.‏ وقيل في قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك‏.‏ وإن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى‏:‏ أن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال‏.‏ ‏{‏عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ من الأحكام ‏{‏لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ‏}‏ غير ما أوحينا إليك‏.‏ ‏{‏وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً‏}‏ ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك ولياً لهم بريئاً من ولايتي‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن ثبتناك‏}‏ ولولا تثبيتنا إياك‏.‏ ‏{‏لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً‏}‏ لقاربت أن تميل إلى اتباع مرادهم، والمعنى أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون فضلاً أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هَمَّ بإجابتهم مع قوة الدواعي‏.‏ إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏إِذًا لأذقناك‏}‏ أي لو قاربت لأذقناك‏.‏ ‏{‏ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات‏}‏ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما نعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير أخطر، وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، ثم أضيفت كما يضاف موصوفها‏.‏ وقيل الضعف من أسماء العذاب‏.‏ وقيل المراد ب ‏{‏ضِعْفَ الحياة‏}‏ عذاب الآخرة ‏{‏وَضِعْفَ الممات‏}‏ عذاب القبر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا‏}‏ يدفع العذاب عنك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَادُواْ‏}‏ وإن كاد أهل مكة‏.‏ ‏{‏لَيَسْتَفِزُّونَكَ‏}‏ ليزعجوك بمعاداتهم‏.‏ ‏{‏مّنَ الأرض‏}‏ أرض مكة‏.‏ ‏{‏لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك‏}‏ ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ إلا زماناً قليلاً، وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بسنة‏.‏ وقيل الآية‏:‏ نزلت في اليهود حسدوا مقام النبي بالمدينة فقالوا‏:‏ الشام مقام الأنبياء فإن كنت نبياً فالحق بها حتى نؤمن بك، فوقع ذلك في قلبه فخرج مرحلة فنزلت، فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلي بنو النضير بقليل‏.‏ وقرئ «لا يلبثوا» منصوباً ب ‏{‏إِذَا‏}‏ على أنه معطوف على جملة قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ‏}‏ لا على خبر كاد فإن إذا لا تعمل إذا كان معتمد ما بعدها على ما قبلها وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص ‏{‏خلافك‏}‏ وهو لغة فيه قال الشاعر‏:‏

عفت الدَّيَار خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا *** بسط الشَّوَاطِبَ بَيْنَهُنَّ حَصِيراً

‏{‏سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا‏}‏ نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة، وهو أن يهلك كل أمة لله أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏ أي تغييراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس‏}‏ لزوالها ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقيل لغروبها وأصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فإن الدلك لا تستقر يده، وكذا كل ما تركب من الدال واللام‏:‏ كدلج ودلح ودلع ودلف ودله‏.‏ وقيل الدلوك من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها، واللام للتأنيث مثلها في‏:‏ لثلاث خلون ‏{‏إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏}‏ إلى ظلمته وهو وقت صلاة العشاء الأخيرة‏.‏ ‏{‏وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ‏}‏ وصلاة الصبح، سميت قرآناً لأنه ركنها كما سميت ركوعاً وسجوداً، واستدل به على وجوب القراءة فيها ولا دليل فيه لجواز أن يكون التجوز لكونها مندوبة فيها، نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر دل الأمر بإقامتها على الوجوب فيها نصاً وفي غيرها قياساً‏.‏ ‏{‏إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً‏}‏ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أو شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه أو كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير، والآية جامعة للصلوات الخمس إن فسر الدلوك بالزوال ولصلوات الليل وحدها إن فسر بالغروب‏.‏ وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب وقوله ‏{‏لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل‏}‏ بيان لمبدأ الوقت ومنتهاه، واستدل به على أن الوقت يمتد إلى غروب الشفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ‏}‏ وبعض الليل فاترك الهجود للصلاة والضمير لل ‏{‏قُرْءانَ‏}‏‏.‏ ‏{‏نَافِلَةً لَّكَ‏}‏ فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك‏.‏ ‏{‏عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا‏}‏ مقاماً يحمده القائم فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل مكان يتضمن كرامة والمشهور أنه مقام الشفاعة‏.‏ لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» ولإِشعاره بأن الناس يحمدونه لقيامه فيه وما ذاك إلا مقام الشفاعة، وانتصابه على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقاماً أو بتضمين ‏{‏يَبْعَثَكَ‏}‏ معناه، أو الحال بمعنى أن يبعثك ذا مقام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى‏}‏ أي في القبر‏.‏ ‏{‏مُدْخَلَ صِدْقٍ‏}‏ إِدخالاً مرضياً‏.‏ ‏{‏وَأَخْرِجْنِى‏}‏ أي منه عند البعث‏.‏ ‏{‏مُخْرَجَ صِدْقٍ‏}‏ إخراجاً ملقى بالكرامة‏.‏ وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة‏.‏ وقيل إدخاله مكة ظاهراً عليها وإخراجه منها آمناً من المشركين‏.‏ وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً‏.‏ وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤدياً حقه‏.‏ وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه‏.‏ وقرئ ‏{‏مُدْخَلَ‏}‏ و‏{‏مُخْرَجَ‏}‏ بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولاً وأخرجني فأخرج خروجاً‏.‏ ‏{‏واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا‏}‏ حجة تنصرني على من خالفني أو ملكاً ينصر الإِسلام على الكفر، فاستجاب له بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون‏}‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ‏}‏ ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض‏}‏ ‏{‏وَقُلْ جَاء الحق‏}‏ الإسلام ‏{‏وَزَهَقَ الباطل‏}‏ وذهب وهلك الشرك من زهق روحه إذا خرج‏.‏ ‏{‏إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا‏}‏ مضمحلاً غير ثابت، عن ابن مسعود رضي الله عنه ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح وفيها ثلثمائة وستون صنماً ينكت بمخصرته في عين كل واحد منها فيقول جاء الحق وزهق الباطل، فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال‏:‏ يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره‏)‏‏.‏

‏{‏وَنُنَزّلُ مِنَ القرءان مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى، و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان فإن كله كذلك‏.‏ وقيل إنه للتبعيض والمعنى أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء‏.‏ وقرأ البصريان ‏{‏نُنَزّلُ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ لتكذيبهم وكفرهم به‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان‏}‏ بالصحة والسعة ‏{‏أَعْرَضَ‏}‏ عن ذكر الله‏.‏ ‏{‏وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ لوى عطفه وبعد بنفسه عنه كأنه مستغن مستبد بأمره، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان هنا وفي «فصلت» ‏{‏وناء‏}‏ على القلب أو على أنه بمعنى نهض‏.‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشر‏}‏ من مرض أو فقر‏.‏ ‏{‏كَانَ يَئُوساً‏}‏ شديد اليأس من روح الله‏.‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ‏}‏ قل كل أحد يعمل على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه‏.‏ ‏{‏فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً‏}‏ أسد طريقاً وأبين منهجاً، وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح‏}‏ الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره‏.‏ ‏{‏قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى‏}‏ من الإبداعيات الكائنة ب ‏{‏كُنَّ‏}‏ من غير مادة وتولد من أصل كأعضاء جسده، أو وجد بأمره وحدث بتكوينه على أن السؤال عن قدمه وحدوثه‏.‏ وقيل مما استأثر الله بعلمه‏.‏ لما روي‏:‏ أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة‏.‏ وقيل الروح جبريل وقيل خلق أعظم من الملك وقيل القرآن، ومن أمر ربي معناه من وحيه‏.‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ تستفيدونه بتوسط حواسكم، فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية‏.‏ إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حساً فقد فقد علماً‏.‏ ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيئاً من أحواله المعروفة لذاته، وهو إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به، فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى في جواب‏:‏ وما رب العالمين بذكر بعض صفاته‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام لما قال لهم ذلك قالوا‏:‏ أنحن مختصون بهذا الخطاب‏؟‏ فقال‏:‏ بل نحن وأنتم، فقالوا‏:‏ ما أعجب شأنك ساعة تقول ‏{‏وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏ وساعة تقول هذا فنزلت ‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏}‏ وما قالوا لسوء فهمهم لأن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير والحق ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به معاشه ومعاده، وهو بالإضافة إلى معلومات الله التي لا نهاية لها قليل ينال به خير الدارين وهو بالإضافة إليه كثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 93‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ اللام الأولى موطئة للقسم و‏{‏لنذهبن‏}‏ جوابه النائب مناب جزاء الشرط‏.‏ والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور ‏{‏ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً‏}‏ من يتوكل علينا استرداده مسطوراً محفوظاً‏.‏

‏{‏إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ‏}‏ فإنها إن نالتك فلعلهما تسترده عليك، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، فيكون امتناناً بابقائه بعد المنة في تنزيله‏.‏ ‏{‏إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا‏}‏ كإرساله وإنزال الكتاب عليه وإبقائه في حفظه‏.‏

‏{‏قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان‏}‏ في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى‏.‏ ‏{‏لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏ وفيهم العرب العرباء وأَرباب البيان وأهل التحقيق، وهو جواب قسم محذوف دل عليه اللام الموطئة، ولولا هي لكان جواب الشرط بلا جزم لكون الشرط ماضياً كقول زهير‏:‏

وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَة *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالي وَلاَ حَرَمُ

‏{‏وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ولو تظاهروا على الإِتيان به، ولعله لم يذكر الملائكة لأن إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزاً، ولأنهم كانوا وسائط في إتيانه، ويجوز أن تكون الآية تقريراً لقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا‏}‏ كررنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان‏.‏ ‏{‏لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ من كل معنى كالمثل في غرابته ووقوعه موقعها في الأنفس‏.‏ ‏{‏فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ إلا جحوداً، وإنما جاز ذلك ولم يجز‏:‏ ضربت إلا زيداً لأنه متأول بالنفي‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا‏}‏ تعنتاً واقتراحاً بعد ما لزمتهم الحجة بيان إعجاز القرآن وانضمام غيره من المعجزات إليه‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب ‏{‏تَفْجُرَ‏}‏ بالتخفيف والأرض أرض مكة والينبوع عين لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر‏.‏

‏{‏أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار خلالها تَفْجِيرًا‏}‏ أو يكون لك بستان يشتمل على ذلك‏.‏

‏{‏أَوْ نُسْقِطْ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا‏}‏ يعنون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تُسْقِطَ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏ وهو كقطع لفظاً ومعنى، وقد سكنه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب في جميع القرآن إلا في «الروم» وابن عامر إلا في هذه السورة، وأبو بكر ونافع في غيرهما وحفص فيما عدا «الطور»، وهو إما مخفف من المفتوح كسدرة وسدر أو فعل بمعنى مفعول كالطحن‏.‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً‏}‏ كفيلاً بما تدعيه أي شاهداً على صحته ضامناً لدركه، أو مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر وهو حال من الله وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها كما حذف الخبر في قوله‏:‏

‏(‏فإني وقيار بها لغريب‏)‏

أو جماعة فيكون حالا من ‏{‏الملائكة‏}‏

‏{‏أو يكون لك بيت من زخرف‏}‏ من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة ‏{‏أو ترقى في السماء‏}‏ في معارجها ‏{‏ولن نؤمن لرقيك‏}‏ وحده ‏{‏حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه‏}‏ وكان فيه تصديقك ‏{‏قل سبحان ربي‏}‏ تعجبا من اقتراحاتهم أو تنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة وقرأ ابن كثير وابن عامر‏:‏ قال سبحان ربي أي قال الرسول‏:‏ ‏{‏هل كنت إلا بشرا‏}‏ كسائر الناس ‏{‏رسولا‏}‏ كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم على ما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها علي هذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر كقوله‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس‏}‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم بابا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏ أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ إلا قولهم هذا، والمعنى أنه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن إلا أنكارهم أن يرسل الله بشراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ جواباً لشبهتهم‏.‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ‏}‏ كما يمشي بنو آدم‏.‏ ‏{‏مُطْمَئِنّينَ‏}‏ ساكنين فيها‏.‏ ‏{‏لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً‏}‏ لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، وأما الإِنس فعامتهم عماة عن إدراك الملك والتلقف منه، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس، وملكاً يحتمل أن يكون حالاً من رسولاً وأن يكون موصوفاً به وكذلك بشراً والأول أوفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 101‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ على أني رسول الله إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي، أو على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم وشهيداً نصب على الحال أو التمييز‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ يعلم أحوالهم الباطنة منها والظاهرة فيجازيهم عليها، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار‏.‏

‏{‏وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ‏}‏ يهدونه‏.‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ‏}‏ يسحبون عليها أو يمشون بها‏.‏ روي ‏(‏أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم قال‏:‏ «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» ‏{‏عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا‏}‏ لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم، لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصاموا عن استماع الحق وأبوا أن ينطقوا بالصدق، ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار مؤفي القوى والحواس‏.‏ ‏{‏مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ‏}‏ سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم‏.‏ ‏{‏زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ توقداً بأن نبدل جلودهم ولحومهم فتعود ملتهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإِعادة بعد الإِفناء جزاهم الله بأن لا يزالوا على الإِعادة والإِفناء وإليه أشار بقوله‏:‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بئاياتنا وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ لأن الإِشارة إلى ما تقدم من عذابهم‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ أو لم يعلموا‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ‏}‏ فإنهم ليسوا أشد خلقاً منهن ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ هو الموت أو القيامة‏.‏ ‏{‏فأبى الظالمون‏}‏ مع وضوح الحق‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كُفُورًا‏}‏ إلا جحوداً‏.‏

‏{‏قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى‏}‏ خزائن رزقه وسائر نعمه، وأنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده كقول خاتم‏:‏ لو ذات سوار لطمتني‏.‏ وفائدة هذا الحذف والتفسير المبالغة مع الإِيجاز والدلالة على الاختصاص‏.‏ ‏{‏إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق‏}‏ لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق إذ لا أحد إلا ويختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود الله تعالى وكرمه هذا وإن البخلاء أغلب فيهم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان قَتُورًا‏}‏ بخيلاً لأن بناء أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض فيما يبذله‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل‏.‏ وقيل الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة‏.‏ وعن صفوان أن يهودياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال‏:‏ أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت، فقبل اليهودي يده ورجله‏.‏

فعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة للملل الثابتة في كل الشرائع، سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة أو الشقاوة‏.‏ وقوله وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا، حكم مستأنف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام‏.‏ ‏{‏فاسأل بَنِى إسراءيل إِذْ جَاءهُمْ‏}‏ فقلنا له سلهم من فرعون ليرسلهم معك، أو سلهم عن حال دينهم ويؤيده قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم «فسأَل» على لفظ المضي بغير همز وهو لغة قريش و‏{‏إِذْ‏}‏ متعلق بقلنا أو سأل على هذه القراءة أو فاسأل يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم، أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك أو لتتسلى نفسك، أو لتعلم أنه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصروا على العناد والمكابرة كمن قبلهم، أو ليزداد يقينك لأن تظاهر الأدلة يوجب قوة اليقين وطمأنينة القلب وعلى هذا كان ‏{‏إِذْ‏}‏ نصباً بآيتنا أو بإضمار يخبروك على أنه جواب الأمر، أو بإضمار اذكر على الاستئناف‏.‏ ‏{‏فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لأَظُنُّكَ ياموسى مَّسْحُورًا‏}‏ سحرت فتخبط عقلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ‏}‏ يا فرعون وقرأ الكسائي بالضم على إخباره عن نفسه‏.‏ ‏{‏مَا أَنزَلَ هَؤُلاء‏}‏ يعني الآيات‏.‏ ‏{‏إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ‏}‏ بينات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وانتصابه على الحال‏.‏ ‏{‏وَإِنّى لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا‏}‏ مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر من قولهم‏:‏ ما ثبرك عن هذا، أي ما صرفك أو هالكاً قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون كذب بحت وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر أماراته‏.‏ وقرئ «وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً» على إن المخففة واللام هي الفارقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرَادَ‏}‏ فرعون‏.‏ ‏{‏أَن يَسْتَفِزَّهُم‏}‏ أن يستخف موسى وقومه وينفيهم‏.‏ ‏{‏مّنَ الأرض‏}‏ أرض مصر أو الأرض مطلقاً بالقتل والاستئصال‏.‏ ‏{‏فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا‏}‏ فعكسنا عليه مكره فاستفززناه وقومه بالإِغراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد فرعون أو إغراقه‏.‏ ‏{‏لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض‏}‏ التي أراد أن يستفزكم منها‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة‏}‏ الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة‏.‏ ‏{‏جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم، واللفيف الجماعات من قبائل شتى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ‏}‏ أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله، وما نزل على الرسول إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه‏.‏ وقيل وما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين‏.‏ ولعله أراد به نفي اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا‏}‏ للمطيع بالثواب‏.‏ ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ للعاصي بالعقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ‏}‏ نزلناه مفرقاً منجماً‏.‏ وقيل فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف الجار كما في قوله‏:‏ ويوماً شهدناه، وقرئ بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في تضاعيف عشرين سنة‏.‏ ‏{‏لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ‏}‏ على مهل وتؤدة فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏ونزلناه تَنْزِيلاً‏}‏ على حسب الحوادث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏ فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالاً وامتناعكم عنه لا يورثه نقصاً وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ‏}‏ تعليل له أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة، وتمكنوا من الميز بين المحق والمبطل، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب، ويجوز أن يكون تعليلاً ل ‏{‏قُلْ‏}‏ على سبيل التسلية كأنه قيل‏:‏ تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم‏.‏ ‏{‏إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ القرآن‏.‏ ‏{‏يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ يسقطون على وجوههم تعظيماً لأمر الله أو شكراً لإِنجاز وعده في تلك الكتب ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وإنزال القرآن عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا‏}‏ عن خلف الموعد‏.‏ ‏{‏إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً‏}‏ إنه كان وعده كائناً لا محالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ‏}‏ كرره لاختلاف الحال والسبب فإن الأول للشكر عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله، وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد، واللام فيه لاختصاص الخرور به‏.‏ ‏{‏وَيَزِيدُهُمْ‏}‏ سماع القرآن ‏{‏خُشُوعًا‏}‏ كما يزيدهم علماً ويقيناً بالله

‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن‏}‏ نزلت حين سمع المشركون رسول الله يقول‏:‏ يا الله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر‏.‏ أو قالت اليهود‏:‏ إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة، والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما يطلقان على ذات واحدة وإن اختلف اعتبار إطلاقهما، والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود المطلق وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أجود لقوله‏:‏ ‏{‏أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ والدعاء في الآية بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في ‏{‏أَيّا‏}‏ عوض عن المضاف إليه، و‏{‏مَا‏}‏ صلة لتأكيد ما في ‏{‏أَيّا‏}‏ من الإِبهام، والضمير في ‏{‏فَلَهُ‏}‏ للمسمى لأن التسمية له لا للاسم، وكان أصل الكلام ‏{‏أَيّا مَّا تَدْعُواْ‏}‏ فهو حسن، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكونها حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ‏}‏ بقراءة صلاتك حتى تسمع المشركين، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين‏.‏ ‏{‏وابتغ بَيْنَ ذلك‏}‏ بين الجهر والمخافتة‏.‏ ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ وسطاً فإن الاقتصاد في جميع الأمور محبوب‏.‏ روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ويقول‏:‏ أناجي ربي وقد علم حاجتي، وعمر رضي الله عنه كان يجهر ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع قليلاً وعمر أن يخفض قليلاً‏.‏ وقيل معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلاً بالإِخفات نهاراً والجهر ليلاً‏.‏

‏{‏وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ في الألوهية‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل‏}‏ ولي يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته نفي عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختياراً واضطراراً، وما يعاونه ويقويه، ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه الكامل الذات المنفرد بالإِيجاد، المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة، أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا‏}‏ وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك‏.‏

روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية، وعنه عليه السلام «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين، كان له قنطار في الجنة» والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب‏}‏ يعني القرآن، رتب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهاً على أنه أعظم نعمائه، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا‏}‏ شيئاً من العوج باختلال في اللفظ وتناف في المعنى، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏قَيِّماً‏}‏ مستقيماً معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، أو ‏{‏قَيِّماً‏}‏ بمصالح العباد فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفه بالكمال، أو على الكتب السابقة يشهد بصحتها، وانتصابه بمضمر تقديره جعله قيماً أو على الحال من الضمير في ‏{‏لَهُ‏}‏، أو من ‏{‏الكتاب‏}‏ على أن الواو ‏{‏وَلَمْ يَجْعَل‏}‏ للحال دون العطف، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلاً بين أبعاض المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير ‏{‏قَيِّماً‏}‏‏.‏ ‏{‏لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا‏}‏ أي لينذر الذين كفروا عذاباً شديداً، فحذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة واقتصاراً على الغرض المسوق إليه‏.‏ ‏{‏مِن لَّدُنْهُ‏}‏ صادراً من عنده، وقرأ أبو بكر بإسكان الدال كإسكان الباء من سبع مع الإشمام ليدل على أصله، وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإِتباع‏.‏ ‏{‏وَيُبَشّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ هو الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏مَّاكِثِينَ فِيهِ‏}‏ في الأجر‏.‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ بلا انقطاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا‏}‏ خصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقاً بهم استعظاماً لكفرهم، وإنما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدم ذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول، والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر‏.‏ أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه‏.‏ ‏{‏وَلاَ لآَبَائِهِمْ‏}‏ الذين تقولوه بمعنى التبني‏.‏ ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً‏}‏ عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ، و‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود‏.‏ ‏{‏تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواهم، والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها‏.‏ وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبرها هنا بمعنى بئس وقرئ ‏{‏كَبُرَتْ‏}‏ بالسكون مع الإِشمام‏.‏ ‏{‏إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ قاتلها‏.‏ ‏{‏على ءاثارهم‏}‏ إذا ولوا عن الإِيمان، لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم‏.‏ وقرئ ‏{‏باخع نَّفْسَكَ‏}‏ على الإِضافة‏.‏ ‏{‏إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث‏}‏ بهذا القرآن‏.‏ ‏{‏أَسَفاً‏}‏ للتأسف عليهم أو متأسفاً عليهم، والأسف فرط الحزن والغضب‏.‏ وقرئ «أن» بالفتح على لأن فلا يجوز إعمال «باخع» إلا إذا جعل حكاية حال ماضية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض‏}‏ من الحيوان والنبات والمعادن‏.‏ ‏{‏زِينَةً لَّهَا‏}‏ ولأهلها ‏{‏لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ في تعاطيه، وهو من زهد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما يزجي به أيامه وصرفه على ما ينبغي، وفيه تسكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً‏}‏ تزهيد فيه، والجرز الأرض التي قطع نباتها‏.‏ مأخوذ من الجرز وهو القطع، والمعنى إنا لنعيد ما عليها من الزينة تراباً مستوياً بالأرض ونجعله كصعيد أملس لا نبات فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ‏}‏ بل أحسبت‏.‏ ‏{‏أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم‏}‏ في إبقاء حياتهم مدة مديدة‏.‏ ‏{‏كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا‏}‏ وقصتهم بالإِضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع الفائتة للحصر على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة، ثم ردها إليها ليس بعجيب مع أنه من آيات الله كالنزر الحقير‏.‏ و‏{‏الكهف‏}‏ الغار الواسع في الجبل‏.‏ و‏{‏الرقيم‏}‏ اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم، أو اسم قريتهم أو كلبهم‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

وَلَيْسَ بِهَا إِلاَّ الرَّقِيمُ مُجَاوِرا *** وَصَيْدَهُمُو وَالقَوْمُ فِي الكَهْفِ هُجّدٌ

أو لوح رصاصي أو حجري رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف‏.‏ وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه‏.‏ فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته، فقال أحدهم‏:‏ استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت، ثم مر بي بقر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء الله، فرجع إلي بعد حين شيخاً ضعيفاً لا أعرفه وقال‏:‏ إنه لي عندك حقاً وذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء‏.‏ وقال آخر‏:‏ كان فِيَّ فضل وأصابت الناس شدة، فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفاً فقلت‏:‏ والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثاً، ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له وأغيثي عيالك، فأتت وسلمت إلي نفسها فلما تكشفتها وهممت بها ارْتَعَدَتْ فقلت‏:‏ ما لكِ قالت أخاف الله، فقلت لها‏:‏ خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها، اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا، فانصدع حتى تعارفوا‏.‏ وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت، فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما، فوجدتهما نائمين فشق علي أن أوقظهما، فتوقعت جالساً ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما‏.‏ اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا‏.‏ ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك نعمان بن بشير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف‏}‏ يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا وهربوا إلى الكهف، ‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً‏}‏ توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو‏.‏ ‏{‏وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا‏}‏ من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار‏.‏ ‏{‏رَشَدًا‏}‏ نصير بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشداً كقولك‏:‏ رأيت منك أسداً وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ‏}‏ أي ضربنا عليهم حجاباً يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما حذف في قولهم‏:‏ بنى على امرأته‏.‏ ‏{‏فِى الكهف سِنِينَ‏}‏ ظرفان لضربنا‏.‏ ‏{‏عَدَدًا‏}‏ أي ذوات عدد، ووصف السنين به يحتمل التكثير والتقليل، فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بعثناهم‏}‏ أيقظناهم‏.‏ ‏{‏لِنَعْلَمَ‏}‏ ليتعلق علمنا تعلقاً حالياً مطابقاً لتعلقه أولاً تعلقاً استقبالياً‏.‏ ‏{‏أَيُّ الحِزْبَيْنِ‏}‏ المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم‏.‏ ‏{‏أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا‏}‏ ضبط أمد الزمان لبثهم وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم، فهو مبتدأ و‏{‏أحصى‏}‏ خبره‏.‏ وهو فعل ماضٍ و‏{‏أَمَدًا‏}‏ مفعول له و‏{‏لِمَا لَبِثُواْ‏}‏ حال منه أو مفعول له، وقيل إنه المفعول واللام مزيدة وما موصولة و‏{‏أَمَدًا‏}‏ تمييز، وقيل ‏{‏أحصى‏}‏ اسم تفضيل من الإِحصاء بحذف الزوائد كقولهم‏:‏ هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق، و‏{‏أَمَدًا‏}‏ نصب بفعل دل عليه ‏{‏أحصى‏}‏ كقوله‏:‏

وَأضرب مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا *** ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق‏}‏ بالصدق‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ‏}‏ شبان جمع فتى كصبي وصبية‏.‏ ‏{‏ءَامَنُواْ بِرَبّهِمْ وزدناهم هُدًى‏}‏ بالتثبيت‏.‏

‏{‏وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ‏}‏ وقويناها بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال، والجراءة على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار‏.‏ ‏{‏إِذْ قَامُواْ‏}‏ بين يديه‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ والله لقد قلنا قولاً ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم‏.‏

‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ‏.‏ ‏{‏قَوْمُنَا‏}‏ عطف بيان‏.‏ ‏{‏اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ خبره، وهو إخبار في معنى إنكار‏.‏ ‏{‏لَّوْلاَ يَأْتُونَ‏}‏ هلا يأتون‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ على عبادتهم‏.‏ ‏{‏بسلطان بَيّنٍ‏}‏ ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز‏.‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ بنسبة الشريك إليه‏.‏

‏{‏وَإِذِ اعتزلتموهم‏}‏ خطاب بعضهم لبعض‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله‏}‏ عطف على الضمير المنصوب، أي وإذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية على تقدير وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، وأن تكون نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين ‏{‏إِذْ‏}‏ وجوابه لتحقيق اعتزالهم‏.‏ ‏{‏فَأْوُواْ إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم‏}‏ يبسط الرزق لكم ويوسع عليكم‏.‏ ‏{‏مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ في الدارين‏.‏ ‏{‏وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا‏}‏ ما ترتفقون به أي تنتفعون، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى، وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏مّرْفَقًا‏}‏ بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر جاء شاذاً كالمرجع والمحيض فإن قياسه الفتح‏.‏

‏{‏وَتَرَى الشمس‏}‏ لو رأيتهم، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد‏.‏ ‏{‏إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ‏}‏ تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأن الكهف كان جنوبياً، أو لأن الله تعالى زورها عنهم‏.‏

وأصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي، وقرأ الكوفيون بحذفها وابن عامر ويعقوب «تزور» كتحمر، وقرئ «تزوار» كتحمار وكلها من الزور بمعنى الميل‏.‏ ‏{‏ذَاتَ اليمين‏}‏ جهة اليمين وحقيقتها الجهة ذات اسم اليمين‏.‏ ‏{‏وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ‏}‏ تقطعهم وتصرم عنهم‏.‏ ‏{‏ذَاتَ الشمال‏}‏ يعني يمين الكهف وشماله لقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ‏}‏ أي وهم في متسع من الكهف، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، وذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه، والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأبيض وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه، ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم‏.‏ ‏{‏ذلك مِنْ آيات الله‏}‏ أي شأنهم وإيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو إخبارك قصتهم، أو ازورار الشمس عنهم وقرضها طالعة وغاربة من آيات الله‏.‏ ‏{‏مَن يَهْدِ الله‏}‏ بالتوفيق‏.‏ ‏{‏فَهُوَ المهتد‏}‏ الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله للتأمل فيها والاستبصار بها‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ ومن يخذله‏.‏ ‏{‏فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا‏}‏ من يليه ويرشده‏:‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا‏}‏ لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ رُقُودٌ‏}‏ نيام‏.‏ ‏{‏وَنُقَلّبُهُمْ‏}‏ في رقدتهم‏.‏ ‏{‏ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال‏}‏ كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان‏.‏ وقرئ «ويقلبهم» بالياء والضمير لله تعالى، و«تَقَلُبَهُمْ» على المصدر منصوباً بفعل يدل عليه تحسبهم أي وترى تقلبهم‏.‏ ‏{‏وَكَلْبُهُمْ‏}‏ هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال‏:‏ أنا أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم‏.‏ أو كلب راع مروا به فتبعهم وتبعه الكلب، ويؤيده قراءة من قرأ‏:‏ و«كالبهم» أي وصاحب كلبهم‏.‏ ‏{‏باسط ذِرَاعَيْهِ‏}‏ حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم الفاعل‏.‏ ‏{‏بالوصيد‏}‏ بفناء الكهف، وقيل الوصيد الباب، وقيل العتبة‏.‏ ‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ‏}‏ فنظرت إليهم، وقرئ ‏{‏لَو اطلعت‏}‏ بضم الواو‏.‏ ‏{‏لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏ لهربت منهم، و‏{‏فِرَاراً‏}‏ يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية والعلة والحال‏.‏ ‏{‏وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏ خوفاً يملأ صدرك بما ألبسهم الله من الهيبة أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم‏.‏ وقيل لوحشة مكانهم‏.‏ وعن معاوية رضي الله عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال‏:‏ لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ليس لك ذلك قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال ‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا‏}‏ فلم يسمع وبعث ناساً فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم‏.‏

وقرأ الحجازيان ‏{‏لَمُلِئْتَ‏}‏ بالتشديد للمبالغة وابن عامر والكسائي ويعقوب ‏{‏رُعْبًا‏}‏ بالتثقيل‏.‏

‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا‏.‏ ‏{‏لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ‏}‏ ليسأل بعضهم بعضاً فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم‏.‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ‏}‏ ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم‏.‏ وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا‏:‏ ‏{‏فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة‏}‏ والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف‏.‏ وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغماً وغير مدغم، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس‏.‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا‏}‏ أي أهلها‏.‏ ‏{‏أزكى طَعَامًا‏}‏ أحل وأطيب أو أكثر وأرخص‏.‏ ‏{‏فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ‏}‏ وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن، أو في التخفي حتى لا يعرف‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا‏}‏ ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير للأهل المقدر في ‏{‏أَيُّهَا‏}‏‏.‏ ‏{‏يَرْجُمُوكُمْ‏}‏ يقتلوكم بالرجم‏.‏ ‏{‏أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ‏}‏ أو يصيروكم إليها كرهاً من العود بمعنى الصيرورة‏.‏ وقيل كانوا أولاً على دينهم فآمنوا‏.‏ ‏{‏وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا‏}‏ إن دخلتم في ملتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم‏.‏ ‏{‏لِيَعْلَمُواْ‏}‏ ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم‏.‏ ‏{‏أَنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالبعث أو الموعود الذي هو البعث‏.‏ ‏{‏حَقّ‏}‏ لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ وأن القيامة لا ريب في إمكانها، فإن من توفى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين حافظاً أبدانها عن التحلل والتفتت، ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكاً إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها‏.‏ ‏{‏إِذْ يتنازعون‏}‏ ظرف ل ‏{‏أَعْثَرْنَا‏}‏ أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون‏.‏ ‏{‏بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ‏}‏ أمر دينهم، وكان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة وبعضهم يقول يبعثان معاً ليرتفع الخلاف ويتبين أنهما يبعثان معاً، أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانياً بالموت فقال بعضهم، ماتوا وقال آخرون ناموا نومهم أول مرة، أو قالت طائفة نبني عليهم بنياناً يسكنه الناس ويتخذونه قربة، وقال آخرون لنتخذن عليهم مسجداً يصلى فيه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا‏}‏ وقوله ‏{‏رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ‏}‏ اعتراض إما من الله رداً على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من المتنازعين للرد إلى الله بعد ما تذكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك‏.‏ حكي أن المبعوث لما دخل السوق وأخرج الدراهم وكان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانياً موحداً فقص عليه القصص، فقال بعضهم‏:‏ إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإِنس ثم ارجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف وبني عليهم مسجداً‏.‏ وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولاً لئلا يفزعوا، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ‏}‏ أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين‏.‏ ‏{‏ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم‏.‏ قيل هو قول اليهود وقيل هو قول السيد من نصارى نجران وكان يعقوبياً‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ قاله النصارى أو العاقب منهم وكان نسطورياً‏.‏ ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ يرمون رمياً بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه وإتياناً به، أو ظناً بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وإنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما الصلاة والسلام وإيماء الله تعالى إليه بأن أتبعه قوله ‏{‏قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ وأتبع الأولين قوله رجماً بالغيب وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله ‏{‏رَجْماً بالغيب‏}‏ ليتعين الثالث وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيهاً لها بالواقعة حالاً من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت‏.‏ وعن علي رضي الله عنه هم سبعة وثامنهم كلبهم وأسماؤهم‏:‏ يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش أصحاب يساره وكان يستشيرهم، والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس‏.‏ وقيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظاهرا‏}‏ فلا تجادل في شأن الفتية إلاَّ جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم والرد عليهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره، مع أنه لا علم لهم بها ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول وتزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ نهي تأديب من الله تعالى لنبيه حين قالت اليهود لقريش‏:‏ سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه فقال‏:‏ «ائتوني غداً أخبركم» ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوماً حتى شق عليه وكذبه قريش‏.‏ والاستثناء من النهي أي ولا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب ‏{‏أَن يَشَاء الله‏}‏ أي إلا ملتبساً بمشيئته قائلاً إن شاء الله أو إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، ولا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد واستثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي ‏{‏واذكر رَّبَّكَ‏}‏ مشيئة ربك وقل إن شاء الله‏.‏ كما روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إن شاء الله ‏"‏ ‏{‏إِذَا نَسِيتَ‏}‏ إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته‏.‏ وعن ابن عباس ولو بعد سنة ما لم يحنث، ولذلك جوز تأخير الاستثناء عنه‏.‏ وعامة الفقهاء على خلافه لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب، وليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه، ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه، أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك، أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي‏.‏ ‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى‏}‏ يدلني‏.‏ ‏{‏لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا‏}‏ لأقرب رشداً وأظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف‏.‏ وقد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم، والإِخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، أو لأقرب رشداً وأدنى خيراً من المنسي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا‏}‏ يعني لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم، وهو بيان لماأجمل قبل‏.‏ وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة وقال بعضهم ثلثمائة وتسع سنين‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «ثَلاَثمائَة سنين» بالإِضافة على وضع الجمع موضع الواحد، ويحسنه ها هنا أن علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع ومن لم يضف أبدل السنين من ثلثمائة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، فلا خلق يخفى عليه علماً‏.‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏ ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإِدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعليه والباء مزيده عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى ‏{‏وكفى بِهِ‏}‏ والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة‏.‏ ‏{‏مَّا لَهُم‏}‏ الضمير لأهل السموات والأرض‏.‏ ‏{‏مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ‏}‏ من يتولى أمورهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ‏}‏ في قضائه‏.‏ ‏{‏أَحَدًا‏}‏ منهم ولا بجعل له فيه مدخلاً‏.‏ وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإِشراك، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإِضافة إلى رسول الله على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ‏}‏ من القرآن، ولا تسمع لقولهم ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره‏.‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ملتجأ عليه إن هممت به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر نَفْسَكَ‏}‏ واحبسها وثبتها‏.‏ ‏{‏مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى‏}‏ في مجامع أوقاتهم، أو في طرفي النهار‏.‏ وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير‏.‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ رضا الله وطاعته‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏ ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبأ‏.‏ وقرئ «ولا تعد عينيك» ‏{‏وَلاَ تَعْدُ‏}‏ من أعداه وعداه‏.‏ والمراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى طراوة زي الأغنياء‏.‏ ‏{‏تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏ حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ‏}‏ من جعلنا قلبه غافلاً‏.‏ ‏{‏عَن ذِكْرِنَا‏}‏ كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش‏.‏ وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة‏.‏ والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإِغفال إلى الله تعالى قالوا‏:‏ إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإِيمان، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ وجوابه ما مر غير مرة‏.‏ وقرئ ‏{‏أَغْفَلْنَا‏}‏ بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏ أي تقدماً على الحق ونبذاً له وراء ظهره يقال‏:‏ فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ‏}‏ الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى، ويجوز أن يكون الخبر خبر مبتدأ محذوف و‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ حالاً‏.‏ ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وإن كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا‏}‏ هيأنا‏.‏ ‏{‏لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا‏}‏ فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من النار‏.‏ وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط‏.‏ وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار ‏{‏وَإِن يَسْتَغِيثُواْ‏}‏ من العطش‏.‏ ‏{‏يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل‏}‏ كالجسد المذاب‏.‏ وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله‏:‏ فأعتبوا بالصيلم‏.‏ ‏{‏يَشْوِى الوجوه‏}‏ إذا قدم ليشرب من فرط حرارته، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف‏.‏ ‏{‏بِئْسَ الشراب‏}‏ المهل‏.‏ ‏{‏وَسَاءتْ‏}‏ النار‏.‏ ‏{‏مُرْتَفَقًا‏}‏ متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏ خبر إن الأولى وهي الثانية بما في حيزها، والراجع محذوف تقديره من أحسن عملاً منهم أو مستغنى عنه بعموم من أحسن عملاً كما هو مستغنى عنه في قولك‏:‏ نعم الرجل زيد، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملاً لا يحسن اطلاقه على الحقيقة إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار‏}‏ وما بينهما اعتراض وعلى الأول استئناف لبيان الأجر أو خبر ثان‏.‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ‏}‏ من الأولى للابتداء والثانية للبيان صفة ل ‏{‏أَسَاوِرَ‏}‏، وتنكيره لتعظيم حسنها من الإِحاطة به وهو جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار‏.‏ ‏{‏وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا‏}‏ لأن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة‏.‏ ‏{‏مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ مما رقّ من الديباج وما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين‏.‏ ‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك‏}‏ على السرر كما هو هيئة المتنعمين‏.‏ ‏{‏نِعْمَ الثواب‏}‏ الجنة ونعيمها‏.‏ ‏{‏وَحَسُنَتْ‏}‏ الأَرَائك ‏{‏مُرْتَفَقتً‏}‏ متكأ‏.‏

‏{‏واضرب لَهُمْ مَّثَلاً‏}‏ للكافر والمؤمن‏.‏ ‏{‏رَّجُلَيْنِ‏}‏ حال رجلين مقدرين أو موجودين هما أخوان من بني إسرائيل كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعاً وعقاراً وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى‏.‏ وقيل الممثل بهما أخوان من بني مخزوم كافر وهو الأسود بن عبد الأشد ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏}‏ بستانين‏.‏ ‏{‏مّنْ أعناب‏}‏ من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة للرجلين‏.‏ ‏{‏وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ‏}‏ وجعلنا النخل محيطة بهما مؤزراً بها كرومهما، يقال حفه القوم إذا أطافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقولك‏:‏ غشيته به‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا‏}‏ وسطهما‏.‏ ‏{‏زَرْعًا‏}‏ ليكون كل منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق‏.‏

‏{‏كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ ثمرها، وإفراد الضمير لإِفراد ‏{‏كِلْتَا‏}‏ وقرئ «كل الجنتين آتى أكله»‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ‏}‏ ولم تنقص من أكلها‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً‏.‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً‏}‏ ليدوم شربهما فإنه الأصل ويزيد بهاؤهما، وعن يعقوب «وَفَجرنَا» بالتخفيف‏.‏

‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله إذا كثره‏.‏ وقرأ عاصم بفتح الثاء والميم، وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم والباقون بضمهما وكذلك في قوله ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ ‏{‏فَقَالَ لصاحبه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ يراجعه في الكلام من حار إذا رجع‏.‏

‏{‏أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ حَشَماً وأعواناً‏.‏ وقيل أولاداً ذكوراً لأنهم الذين ينفرون معه‏.‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ‏}‏ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها، وإفراد الجنة لأن المراد ما هو جنته وما متع به من الدنيا تنبيهاً على أن لا جنة له غيرها ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون، أو لاتصال كل واحد من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون في واحدة واحدة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ‏}‏ ضار لها بعجبه وكفره ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ‏}‏ أن تفنى‏.‏ ‏{‏هذه‏}‏ الجنة‏.‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته‏.‏

‏{‏وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً‏}‏ كائنة‏.‏ ‏{‏وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى‏}‏ بالبعث كما زعمت‏.‏ ‏{‏لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا‏}‏ من جنته، وقرأ الحجازيان والشامي «منهما» أي من الجنتين‏.‏ ‏{‏مُنْقَلَباً‏}‏ مرجعاً وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية، وإنما أقسم على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه لاستئهاله واستحقاقه إياه لذاته وهو معه أينما تلقاه‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُ صاحبه وَهُوَ يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ‏}‏ لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك‏.‏ ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ فإنها مادتك القريبة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏ ثم عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال‏.‏ جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى، ولذلك رتب الإِنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏لََكِنَّا هُوَ الله رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا‏}‏ أصله لكن أنا فحذفت الهمزة بنقل الحركة أو دونه فتلاقت النونان فكان الإِدغام، وقرأ ابن عامر ويعقوب في رواية بالألف في الوصل لتعويضها من الهمزة أو لإِجراء الوصل مجرى الوقف، وقد قرئ «لكن أنا» على الأصل وهو ضمير الشأن وهو بالجملة الواقعة خبراً له خبر «أنا» أو ضمير ‏{‏الله‏}‏ و‏{‏الله‏}‏ بدله وربي خبره والجملة خبر «أنا» والاستدراك من أكفرت كأنه قال‏:‏ أنت كافر بالله لكني مؤمن به، وقد قرئ «لكن هو الله ربي ولكن أنا لا إله إلا هو ربي»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ‏}‏ وهلا قلت عند دخولها‏.‏ ‏{‏مَا شَاء الله‏}‏ الأمر ما شاء أو ما شاء كائن على أن ما موصولة، أو أي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف إقراراً بأنها وما فيها بمشيئة الله إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها‏.‏ ‏{‏لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ وقلت لا قوة إلا بالله اعترافاً بالعجز على نفسك والقدرة لله، وإن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها بمعونته وإقداره‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى شيئاً فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره» ‏{‏إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا‏}‏ يحتمل أن يكون فصلاً وأن يكون تأكيداً للمفعول الأول، وقرئ ‏{‏أَقُلْ‏}‏ بالرفع على أنه خبر ‏{‏أَنَاْ‏}‏ والجملة مفعول ثاني ل ‏{‏تَرَنِ‏}‏، وفي قوله ‏{‏وَوَلَدًا‏}‏ دليل لمن فسر النفر بالأولاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ‏}‏ في الدنيا أو في الآخرة لإِيماني وهو جواب الشرط‏.‏ ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا‏}‏ على جنتك لكفرك‏.‏ ‏{‏حُسْبَانًا مِّنَ السماء‏}‏ مرامي جمع حسبانة وهي الصواعق‏.‏ وقيل هو مصدر بمعنى الحساب والمراد به التقدير بتخريبها أو عذاب حساب الأعمال السيئة‏.‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ أرضاً ملساء يزلق عليها باستئصال نباتها وأشجارها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ أي غائراً‏.‏ في الأرض مصدر وصف به كالزلق‏.‏ ‏{‏فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا‏}‏ للماء الغائر تردداً في رده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه وأنذره منه، وهو مأخوذ من أحاط به العدو فإنه إذا أحاط به غلبه وإذا غلبه أهلكه، ونظيره أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ‏}‏ ظهراً لبطن تلهفاً وتحسراً‏.‏ ‏{‏عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ في عمارتها وهو متعلق ب ‏{‏يُقَلّبُ‏}‏ لأن تقليب الكفين كناية عن الندم فكأنه قيل‏:‏ فأصبح يندم، أو حال أي متحسراً على ما أنفق فيها‏.‏ ‏{‏وَهِىَ خَاوِيَةٌ‏}‏ ساقطة‏.‏ ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها عليها‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ عطف على ‏{‏يُقَلّبُ‏}‏ أو حال من ضميره‏.‏ ‏{‏ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا‏}‏ كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يهلك الله بستانَه، ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندماً على ما سبق منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي بالياء لتقدمه‏.‏ ‏{‏يَنصُرُونَهُ‏}‏ يقدرون على نصره بدفع الإِهلاك أو رد المهلك أو الإِتيان بمثله‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ فإِنه القادر على ذلك وحده‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً‏}‏ وما كان ممتنعاً بقوته عن انتقام الله منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ في ذلك المقام وتلك الحال‏.‏ ‏{‏الولاية لِلَّهِ الحق‏}‏ النصرة له وحدة لا يقدر عليها غيره تقديراً لقوله ‏{‏وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ‏}‏ أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن ويعضده قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏ أي لأوليائه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالكسر ومعناه السلطان والملك أي هنالك السلطان له لا يغلب ولا يمنع منه، أو لا يعبد غيره كقوله تعالى ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ فيكون تنبيهاً على أن قوله ‏{‏ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ‏}‏ كان عن اضطرار وجزع مما دهاه‏.‏ وقيل ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ إشارة إلى الآخرة وقرأ أبو عمرو والكسائي ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع صفة للولاية، وقرئ بالنصب على المصدر المؤكد، وقرأ عاصم وحمزة «عُقْبًا» بالسكون، وقرئ «عقبى» وكلها بمعنى العاقبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا‏}‏ واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة‏.‏ ‏{‏كَمَاء‏}‏ هي كماء ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ل ‏{‏اضرب‏}‏ على أنه بمعنى صير‏.‏ ‏{‏أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض‏}‏ فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه، أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ هَشِيمًا‏}‏ مهشوماً مكسوراً‏.‏ ‏{‏تَذْرُوهُ الرياح‏}‏ تفرقه، وقرئ «تذريه» من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَئ‏}‏ من الإِنشاء والإِفناء‏.‏ ‏{‏مُّقْتَدِرًا‏}‏ قادراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ يتزين بها الإِنسان في دنياه وتفنى عنه عما قريب‏.‏ ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ وأعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الآباد، ويندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر والكلام الطيب‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ‏}‏ من المال والبنين‏.‏ ‏{‏ثَوَاباً‏}‏ عائدة‏.‏ ‏{‏وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يؤمل بها في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال‏}‏ واذكر يوم نقلعها ونسيرها في الجو، أو نذهب بها فنجعلها هباء منبثاً‏.‏ ويجوز عطفه على ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ أي الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير بالتاء والبناء للمفعول وقرئ «تسير» من سارت‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏ بادية برزت من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها، وقرئ «وترى» على بناء المفعول‏.‏ ‏{‏وحشرناهم‏}‏ وجمعناهم إلى الموقف، ومجيئه ماضياً بعد ‏{‏نُسَيّرُ‏}‏ ‏{‏وَتَرَى‏}‏ لتحقق الحشر أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعد لهم، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار قد‏.‏ ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ‏}‏ فلم نترك‏.‏ ‏{‏مّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر لترك الوفاء والغدير لما غادره السيل، وقرئ بالياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبّكَ‏}‏ شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم‏.‏ ‏{‏صَفَّا‏}‏ مصطفين لا يحجب أحد أحد‏.‏ ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ على إضمار القول على وجه يكون حالاً أو عاملاً في يوم نسير‏.‏ ‏{‏كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ عراة لا شيء معكم من المال والولد كقوله ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى‏}‏ أو أحياء كخلقتكم الأولى لقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لَن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا‏}‏ وقتاً لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء كذبوكم به، وبل للخروج من قصة إلى أخرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَوُضِعَ الكتاب‏}‏ صحائف الأعمال في الأيمان والشمائل أو في الميزان وقيل هو كناية عن وضع الحساب‏.‏ ‏{‏فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين‏.‏ ‏{‏مِمَّا فِيهِ‏}‏ من الذنوب‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ ياويلتنا‏}‏ ينادون هلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات‏.‏ ‏{‏مَّالِ هذا الكتاب‏}‏ تعجباً من شأنه‏.‏ ‏{‏لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً‏}‏ هنة صغيرة‏.‏ ‏{‏وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ إلا عددها وأحاط بها‏.‏ ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا‏}‏ مكتوباً في الصحف‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ فيكتب عليه ما لم يفعل أو يزيد في عقابه الملائم لعمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 55‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان‏.‏ زهدهم أولاً في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العدواة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن‏.‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن‏}‏ حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل‏:‏ ما له لم يسجد فقيل كان من الجن‏.‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ‏}‏ فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب، وفيه دليل على أن الملك لا يعصى أَلبتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنياً في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة «البقرة»‏.‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ‏}‏ أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإِنكار والتعجب‏.‏ ‏{‏وَذُرّيَّتَهُ‏}‏ أولاده أو أتباعه، وسماهم ذرية مجازاً‏.‏ ‏{‏أَوْلِيَاء مِن دُونِى‏}‏ فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ من الله تعالى إبليس وذريته، ‏{‏وَمَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ‏}‏ نفي إحضار إبليس وذريته خلق السموات والأرض، وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً‏}‏ أي أعواناً رداً لاتخاذهم أولياء من دون الله شركاء له في العبادة، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها، فوضع ‏{‏المضلين‏}‏ موضع الضمير ذماً لهم واستبعاداً للاعتضاد بهم‏.‏ وقيل الضمير للمشركين والمعنى‏:‏ ما أشهدتهم خلق ذلك وما خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم حتى لو آمنوا اتبعهم الناس كما يزعمون، فلا تلتفت إلى قولهم طمعاً في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلين لديني‏.‏ ويعضده قراءة من قرأ ‏{‏وَمَا كُنْتَ‏}‏ على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقرئ ‏{‏مُتَّخِذاً المضلين‏}‏ على الأصل و‏{‏عَضُداً‏}‏ بالتخفيف و‏{‏عَضُداً‏}‏ بالاتباع و‏{‏عَضُداً‏}‏ كخدم جمع عاضد من عضده إذا قواه‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ‏}‏ أي الله تعالى للكافرين وقرأ حمزة بالنون‏.‏ ‏{‏نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ أنهم شركائي وشفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي، وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ والمراد ما عبد من دونه، وقيل إبليس وذريته‏.‏ ‏{‏فَدَعَوْهُمْ‏}‏ فنادوهم للإِغاثة‏.‏ ‏{‏فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ‏}‏ فلم يغيثوهم‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم‏}‏ بين الكفار وآلهتهم‏.‏ ‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ مهلكاً يشتركون فيه وهو النار، أو عداوة هي في شدتها هلاك كقول عمر رضي الله عنه‏:‏ لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً‏.‏

و ‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ اسم مكان أو مصدر من وبق يوبق وبقا إذا هلك‏.‏ وقيل البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ‏}‏ فأيقنوا‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا‏}‏ مخالطوها واقعون فيها‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ انصرافاً أو مكانًا ينصرفون إليه‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ من كل جنس يحتاجون إليه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَئ‏}‏ يتأتى منه الجدل‏.‏ ‏{‏جَدَلاً‏}‏ خصومة بالباطل وانتصابه على التمييز‏.‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ‏}‏ من الإِيمان‏.‏ ‏{‏إِذْ جَاءهُمُ الهدى‏}‏ وهو الرسول الداعي والقرآن المبين‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ ومن الاستغفار من الذنوب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين‏}‏ إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين، وهي الاستئصال فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب‏}‏ عذاب الآخرة‏.‏ ‏{‏قُبُلاً‏}‏ عياناً‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏قُبُلاً‏}‏ بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع، وقرئ بفتحتين وهو أيضاً لغة يقال لقيته مقابلة وقبلاً وقبلاً وقبلياً، وانتصابه على الحال من الضمير أو ‏{‏العذاب‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ للمؤمنين والكافرين‏.‏ ‏{‏ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل‏}‏ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات، والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتاً‏.‏ ‏{‏لِيُدْحِضُواْ بِهِ‏}‏ ليزيلوا بالجدال‏.‏ ‏{‏الحق‏}‏ عن مقره ويبطلوه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وذلك قولهم للرسل ‏{‏مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا‏}‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة‏}‏ ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏واتخذوا ءاياتى‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏وَمَا أُنْذِرُواْ‏}‏ وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب‏.‏ ‏{‏هُزُواً‏}‏ استهزاء‏.‏ وقرئ «هزأ» بالسكون وهو ما يستهزأ به على التقديرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ‏}‏ بالقرآن‏.‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ فلم يتدبرها ولم يتذكر بها‏.‏ ‏{‏وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتهما‏.‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ تعليل لإِعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم‏.‏ ‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ كراهة أن يفقهوه، وتذكير الضمير وإفراده للمعنى‏.‏ ‏{‏وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه‏.‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً‏}‏ تحقيقاً ولا تقليداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون وإذا كما عرفت جزاء وجواب للرسول صلى الله عليه وسلم على تقدير قوله ما لي لا أدعوهم، فإن حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم يدل عليه‏.‏